الأحد، 22 مايو 2011

عن الحرية !

"عن الحرية"، أو On Liberty هذا هو عنوان العمل الأشهر للسياسي الفيلسوف و المنطيق البريطاني السيد جون ستوارت مل. كنت قد أضفت هذا العمل إلى قائمة قراءاتي بعد أن طلبت مشورة محامٍ سعودي في إيجاد عمل يؤصل لليبرالية بدون تطبيل أو تزييف، و خصوصا أني مللت التلفيقات الدينية السلفية بشأنها و التمييع المتحرر السعودي لها، و قد أحسن السيد المحامي في إشارته لي بالاطلاع على هذا الكتاب و الذي أعتقد أنه يجب -و بدون مبالغة- أن يكون الانتاج الذي يلتمس منه الليبراليون الهدى و الرشاد في منهجهم !

أحاول في هذه التدوينة استعراض بعض الاقتباسات من الكتاب و التي أعتقد أنها essential أو أساسية في فهمنا لليبرالية مع محاولة ربط تحليلية لآراء شخصية إن استلزم الأمر.

يسطر مل قائلاً، "إن الغرض الأوحد، و الذي يمكن للحكومة من خلاله بحق أن تمارس القوة على أي فرد من أفراد مجتمع مدني ضد مشيئته و إرادته هو منع الأذى عن الآخرين".

أعلاه هو ما يطلق عليه الـ Harm Principle أو مبدأ الضرر، و هو حقيقة المبدأ الذي يقف عليه كتاب مل بأكمله، و هو مبدأ لا تنتهجه السلطات في البلاد سواء السياسية منها أو الدينية، كما أني لا أعتقد المبالغة عندما أقول بأن ثقافاتنا هي أيضا لا تتسامح و مبدأ كذلك.

اقتباس رائع آخر لمل يوضح التحفيز الكبير للتعددية و حرية الرأي و التعبير من قبل الليبرالية هو قوله، "لو أجمعت البشرية بأكملها على رأي واحد معين، و اتبع فرد واحد فقط الرأي المضاد لذلك الرأي الأول، فإن البشرية بأجمعها لن تكون عادلة في محاولاتها لإسكات ذلك الشخص تماما كما لن يكون من العدل أن يحاول ذلك الفرد إسكات البشرية إن هو امتلك القوة لفعل ذلك".

يشنع مل على من يحارب حرية الرأي و التعبير، و يرى في ذلك جهلاً عظيما، فهو يردف تعليلاً رائعا لذلك، و هو يبدع من خلال ذلك، فهو منطيق بارع على أية حال فيقول، "لأنه إذا كان رأي ذلك الفرد حقا و صحيحا، فإن البشرية تخسر فرصة استبدال الباطل بالحق. أما إذا كان ذلك الرأي باطلاً، فإن البشرية تخسر أيضا ما هو ذا منفعة مماثلة، و تلك المنفعة هي : التصور الأخلص و الأصفى و الأنقى للحق نتيجة تصادمه و الباطل".

يلتفت مل للشأن السياسي قليلاً، و يسطر درسا رائعا في جملة بسيطة و يقول، "في السياسة، فإن وجود حزب ينادي بالاتزان و التماسك (يقصد المحافظين)، و وجود آخر ينادي بالإصلاح و التقدم (الليبرالي) هو أمر شائع لضمان تسيير صحي للحياة السياسية".

الاقتباس أعلاه و لعمري من أجمل ما سطر مل في كتابه، فهو يكشف لنا عن شخصية فيلسوف يلتزم فلسفته و مبادئه. فيلسوف "يعيش فلسفته"، و هو -أي الفيلسوف الذي يعيش بفلسفته- هو الفيلسوف الحق كما قال نيتشه. فجون ستوارت مل كما نلحظ لم يدعو إلى التخلص من المحافظين (على الرغم من معارضته الشديدة لهم)، بل إن عقليته المدركة بعدم امتلاكه للحقيقة المطلقة تجعله يقر بضرورة وجود الآخر المختلف لضمان انتفاء الدوغمائية المهلكة، لأن الحقيقة على الأرجح ضمن أمور الحياة العملية ليست إلا توفيقاً و ربطاً للمتناقضات، كما يشير هو.

اقتباس آخر لمل عن "الحرية" يذكرني بآخر لباروخ سبينوزا يقول فيه، "إن الحرية لازمة للتطور و التقدم في العلوم و الفنون"، و مل لا يبخل على قراءه بعبارة لا تقل فطنة و حكمة و يقول، "إن العبقري لا يمكنه التنفس إلا ضمن مناخ يتسم بالحرية". و ما زلنا نتساءل : لم يغيب الإبداع العلمي و الفني لدينا.

يعرج مل مرة أخرى على مسألة التعددية و يشنع على أي محاولات لقتلها أو انتهاكها، و يرى أن التعددية حتى لو انحصرت في "الأذواق" فهذا سبب كافٍ لعدم "ضرب و خلط" البشر للخروج بـ "موديل" واحد يجمعهم و يشملهم.

يؤكد مل على أهمية "الفردانية" و أساسيتها في تقدم و تطور الأمم و الشعوب فيقول، "يبدو على أمة معينة التقدم و التطور، و من ثم و فجأة : تتوقف ! متى توقفت ؟ عندما كفّت عن الحفاظ على الفردانية و قيمها".

لا يتناسى مل العنصرية، و يؤكد على وقوعها على النقيض من الليبرالية و تعدديتها و يتسائل و يقول، "ما الذي يجعل عائلة الأمم الأوروبية عائلة متقدمة و ليست ثابتة متصلبة ؟ الإجابة ليست امتيازا خاصا قد امتلكه الأوروبيون عن بقية البشر، و حتى لو امتلكوه فسيكون نتيجة و ليس سببا. إنما الإجابة على ذلك السؤال هي التعددية و التنوع المدهش المتناهي في شخصياتها و ثقافاتها". صورة مع التحية لجماهير مقولات "طرش بحر" و 07 و "و بدوي" و "خضيري" و "عبد" و "ليبرالي" و "علماني" و "شيعي" و "صوفي" و غيرها من المسميات الفارغة الجاهلة التي لا يقصد منها الإشارة و إنما التعنصر العرقي/الفكري/الطائفي/الديني المقيت.

درس آخر يسطره مل هو مُقتبس كما يذكر من الفيسلوف و فقيه اللغة الألماني فيلهلم فون همبولت عن شرطين لازمين و ضروريين للتقدم الإنساني : الحرية، و التنوع في المواقف.

كلمات تسطر بالذهب !

يخصص مل فصلا كاملا للحديث عن حدود سلطة المجتمع على الفرد، فهو يرى سلطة للمجتمع على الفرد بحكم أن الفرد ينتفع من حماية المجتمع له، و لكن تلك السلطة محدودة بالحماية ضد التصرف الفردي الذي يضر بمصالح الآخرين فقط. أما ما عدا ذلك، فإن للفرد الحرية القانونية و الاجتماعية للقيام بأي تصرف ما دام أن ذلك الفرد ذو عمر قانوني معين و بصحة عقلية جيدة.

قد يتساءل البعض : ماذا لو لاحظ المجتمع على أحد أفراده عملاً فرديا شخصيا لا يقوم على ضرر بالآخرين ولكنه لا يتفق و عاداتهم أو تقاليدهم، أو عملا يثير فيهم الاشمئزاز، فما العمل إذن ؟ يجيب مل على هذا السؤال و يقول : في هذه الحالة، لا بأس على أفراد المجتمع محاولة التواصل و ذلك الشخص، و مساعدته ربما في اتخاذ القرار المناسب أو الحكم الأخلاقي الأفضل، و لكن في النهاية الشخص ذاته هو الحَكم و هو من يتخذ القرار، لأن جميع الآثام أو الأخطاء المحتملة ضد ما تلقاه من نصح و تحذير لا تتجاوز أبدا الشرور الناتجة عن فرض الغير عليه ما يرون هم فيه خير له !

لا يدع مل مجالا للتفسيرات و التأويلات لكتابه، فيستمر في الشرح و التفصيل (لدرجة مملة أحيانا)، و يضيف على القطعة السابقة و يقول، "لنا حق أيضا، و بطرق متعددة، أن نعبر عن عدم ارتياحنا لرأي أو فعل شخصي لأحد أفراد المجتمع، و لكن ليس باضطهاد فردانيته، و لكن بممارسة فردانيتنا نحن من خلال تجنب ذلك الشخص و ربما إبلاغ الآخرين بأفعاله و أنها باعثة على الاستياء إن كنا نرى فيه قدوة سيئة لهم". و في مقطع آخر يكتب مل، "إن الشعور بالاستياء و عدم الراحة الناتج عن تصرف شخصي لفرد معين هو شعور بإمكان المجتمع تحمله من أجل و في سبيل المنفعة العظمى : الحرية !".

يرى مل أن المجتمع قد ملك السلطة على الأفراد طوال فترة طفولتهم و مراهقتهم، و هي فترة كافية للمجتمع لتعريف و تعليم أولائك الأفراد ما يراه كـ تصرفات عقلانية متماشية و عادات المجتمع و تقاليده. أما إن تجاوز الفرد تلك المرحلة العمرية، فهو مخول لاتخاذ قرارته الشخصية بنفسه بما يحكم عليه عقله و منطقه لأن المجتمع -كما يقول مل- الذي يعامل مختلف أفراده و كأنهم مجرد أطفال في حاجة للوصاية من غيرهم إلى الأبد هو مجتمع لا يلم إلا نفسه على الشرور و السلبيات المحتملة لذلك.

يسمي مل حرفياً الوسائل العادلة و القانونية التي يمكن للمجتمع أن يتبعها في تعامله مع التصرفات الشخصية البحتة للأفراد و التي لا تتوازى و تقاليد أو عادات ذلك المجتمع أو التي لا تترك انطباعا جيدا لديه و هي : النصيحة، التعليم، الإقناع، أو التجنب إذا كان ضروريا. انتهي ! (هل يُعقل أنه نسي الاعتقالات، التعهدات، الصدم بالسيارات الرباعية، الطعن بالسكاكين، الحجب، المطاردات لحلق الشعر...إلخ ؟).

يضرب مل بمطرقته على مسمار أساسي للغاية و هو "الذريعة" الوارد صيغة جمعها في مبدأ "سد الذرائع" الإسلامي، ويقول : إن مجرد احتمال وقوع ضرر ما لمصالح الآخرين لا يجب أن يكون سببا عادلاً لتدخل المجتمع في تصرفات الأفراد الشخصية. (قيادة المرأة للسيارة كأنموذج).

سمعتُ عن توجه حكومي لزيادة أسعار السجائر رغبة في "التقليل من استهلاكها" لأهداف صحية. كنت أحد المستائين حقيقة من هذا الخبر، و الذي بدا لي مجرد تسمية أخرى لـ "ضريبة" أخرى لأني غير مدخن على أية حال، و لأن التفحيط و غيره يودي بالكثير من حياة شباننا "و لا من شاف و لا من دري".

تخيل عزيزي القارئ أن مل يعرج على أمر مشابه و يقول : إن فرض الضرائب على المنبهات و المنشطات فقط لجعل هدف الحصول عليها أصعب و أشق هو أمر لا يختلف عن منعها بالكامل و هذا يدخل تحت إطار اضطهاد ما هو في الحقيقة أمر شخصي فردي يخص المدخن. (طبعا التدخين في الأماكن المغلقة على سبيل المثال هو أمر آخر لأن فيه ضرراً بالآخرين و بذلك يخرج عن نطاق الحرية الشخصية، فـ للسلطة منعه بكل عدالة، كما أن استيائي من هذا الأمر لا ينحصر على الإخلال بمبدأ الضرر و لكن لأن الأمر فيه ملئ لجيوب معينة بالمال بدون وجه حق).

و لعل مل يفهمني فيواصل و يقول : إن كان فرض الضرائب على المنبهات و المنشطات لزيادة دخل الدولة، فهذا أمر قد يمكن القبول به على شرط أن "يُقابل بموافقة و تصديق" - أعتقد واضحة.

يذهب مل لفحص حالات متطرفة بخصوص موضوع كتابه كمسألة العبودية فيقرر أنه ليس من الحرية إطلاقا أن يضع الفرد نفسه تحت العبودية لأن ذلك يقتل الحرية، و ليس من مبدأ الحرية أن تكون حرا لكي تكون غير حر ! (بس حنا ما عندنا عبودية ! لا يا شيخ ؟ فكر زين يا بعدي !).

قبل أن أنتهي، أود التأكيد -كما أكد مل- أن التعامل مع أفراد المجتمع كأطفال في حاجة إلى وصاية الحكومة أو أي سلطة أخرى يمنع أفراد ذلك المجتمع من تمرين عقولهم، و أعضاءهم النشطة، و ممارسة إطلاق الأحكام الأخلاقية ضمن أسس مستقلة منطقية عقلانية، و التعامل الأمثل مع قضايا يفترض أن تكون مألوفة غير صادمة.

مجتمع لا تتوفر في أفراده تلك الصفات، ماذا نتوقع منه ؟

و تذكر عزيزي القارئ،

"المعقول هو : القابل للحياة و الواقع" - هيجل.