الاثنين، 17 ديسمبر 2012

طبيعة الدين و المشهد الإسلامي

"الميم هو عبارة عن فكرة قابلة للانقسام و التكاثر." - دانيال دنيت

يتفق الكثير على أن العلم الطبيعي لم يصادف فكرة هزت أركانه كفكرة "التطور البيولوجي" للسير تشارلز داروين، و الذي أحب أن ألقبه بـ "شيخ البيولوجيين".

بل إن هذه الفكرة العظيمة تخطت حدود مملكة العلم الطبيعي -البيولوجيا على وجه التحديد- لتزحف على قلاع المعرفة الإنسانية بما حوت من فلسفة، سياسة، علم نفس، علم اجتماع، علم إنسان، و غير ذلك. دانيال دنيت -الفيلسوف الأميركي المُقتبَس أعلاه- قد ذكر ذات مرة بأنه لو استطاع أن يمنح جائزة للفكرة الأكثر عبقرية في تاريخ البشرية، لمنحها -و بدون تردد- لتشارلز داروين و فكرة التطور متقدماً على جاذبية نيوتن و نسبية آينشتاين !

هذه التدوينة ليست لاستعراض هذه الفكرة الفذة على وجه الخصوص -و إن كانت تستحق ذلك-، و إنما لاستكشاف جانب واحد من أحد جوانبها المثيرة.

في السبعينيات من القرن المنصرم، ضج المجتمع العلمي و الفلسفي بالكتاب الأول للبيولوجي اللامع "ريتشارد دوكنز" -المحاضر آنذاك بجامعة أوكسفورد العريقة- و الذي حمل العنوان الرنّان "الجين الأناني". حاول دوكنز في هذا الكتاب تقديم تفسير غير تقليدي لسلوك الكائنات الحية -و بخاصة الحيوانات و النباتات- في ظلال نظرية التطور. الكتاب رائع للغاية و قد أحدث ثورتين فكريتين بالنسبة لي أحدهما علمية بيولوجية، و الأخرى فلسفية، و هي ما أود استعراضه في هذا السياق.

خصص دوكنز فصلاً من كتابه لما أطلق عليه مسمى "الميم" و المُعرّف باختصار و ذكاء في اقتباس دنيت أعلاه. بدى لدوكنز أن هناك قانوناً للتطور يخص الميمات أو الأفكار شبيها بذلك الطبيعي البيولوجي الآخر الذي يحدد مصائر الجينات ! الفكرة -كما يقرر دوكنز- تولد إلى عالم يسوده الصراع و تقطنه أفكار أخرى تسعى نحو النجاة بالتكاثر و الانقسام من فرد إلى آخر. الأمر ذاته ينطبق إلى حد بعيد على المورّثات (الجينات) و التي تحاول الاستمرار ضمن هذا التنافس المحموم أيضا بالتكاثر و الانقسام من فرد إلى آخر بغض النظر عن الآلية المختلفة طبعاً بين الميم و الجين. و لذلك، نلاحظ أن المسمى الذي منحه دوكنز لـ "الفكرة" هو "ميم" على وزن "جين" كما يشرح هو في كتابه.

لنأخذ "الدين" على سبيل المثال و لنتحدث عن الإسلام على وجه الخصوص بحكم سيادته في بيئتنا. إذا اختزلنا الإسلام ككُل، فإننا نجد بأنه هو الآخر مجرد "فكرة"، و هذا ليس له علاقة بالقدسية لأن صفة "الميمية" تلك تنطبق عليه على أية حال كما سأحاول أن أوضح. إن أبسط صورة للإسلام هي أنه عبارة عن فكرة أتت إلى عالم يسوده الصراع و التنافس بين الكثير جداً من الأفكار من أجل الاستمرار و النجاة.

نلحظ على المستوى البيولوجي أن الكائن الحي يأتي إلى عالم مشابه تسوده صراعات -حسب نظرية الجين الأناني- بين أفراد هم أشبه بـ "آلات نقل و توزيع للجينات التي تسكنهم" و الهدف الأساسي هو الأخذ بيد الفرد إلى أبعد مرحلة زمنية ممكنة و كافية لتمكينه -على الأقل- من التكاثر و الانتاج، و بالتالي دفع تلك الجينات إلى أفق أبعد. نجاح هذه المهمة أو فشلها يعتمد على عوامل كثيرة أهمها -في هذا السياق- هو مدى "تكيف" الفرد في بيئته. و هذا عامل يعتمد على ماهية الجين و نوعه. أما القول الفصل هنا فهو لـ "الانتخاب الطبيعي" و الذي -و بشكل غير واعٍ- يؤدي إلى نجاة أفراد دون آخرين أو تركهم لذرية تفوق في عددها ذريات غيرهم، فإما الخلود و إما الفناء !

لنعد إلى مثال الإسلام. ما تم طرحه في القطعة السابقة ينطبق -و بشكل مثير للغاية- على الإسلام أو الدين كفكرة. الإسلام هو ثاني أكبر ديانة في عدد الأتباع على مستوى العالم و إن كان لنا في هذا أي دلالة فهي أن الإسلام هو فكرة منافسة، بل و متفوقة جداً في عالم صراع الأفكار -على الأقل حتى الآن-، و هذا باعتقادي هو سبب رئيسي -و ليس الوحيد- للسيادة المضطردة و الهائلة للإسلام على غيره من "أفكار" خلال مراحله المبكرة و خلال العصور الوسطى حين أصاب الأفكار الأخرى -إن شئت- كسوفاً ذهب بشعاعها.

إلا أني أخشى أن عالم الأفكار ذلك -تماماً كالطبيعة- هو الآخر غير متحيز و لا يهمه شأن فكرة دون أخرى. كنا قد قررنا أن الفرد في العالم الطبيعي يتحدد مصيره -أو مصير مورثاته بشكل أدق- على مدى توافقه و بيئته و مدى ملائمتها له أو ما يسمى بـ "التكيف" و هو ركن من أركان الانتخاب الطبيعي و التطور بشكل عام. نجد أن عنصر التكيف ينطبق أيضا هنا في عالم الميمات، ففرص استمرار و تكاثر فكرة معينة مرهونة بمدى لياقة تلك الفكرة و ملائمتها و تكيفها مع بيئتها في بعديها الزماني و المكاني.

و الآن، إن قبلنا باستنتاجنا أعلاه، فإن السؤال يصبح : ما مدى تكيف الإسلام السائد مع بيئته ؟ و قبل أن نجيب، هنا نقطتان مهمتان جداً ! الأولى هي أن التكيف يستلزم و يستوجب "التغير" ! الثانية هي أن التكيف -على المستوى الطبيعي/الفكري- يقع على عاتق الفرد/الفكرة و ليس على البيئة ! كلا و إطلاقا ! و الاعتقاد بغير ذلك هو من السخف و السذاجة، بل من الجهل.

و لإجابة السؤال أعلاه، فإن الإسلام يبدو لي أنه يعاني و يخسر حاليا الكثير من لياقته. البيئة الفكرية -كالطبيعية- تتغير و تتبدل و لكن يبدو أن فكرة الإسلام -مُمثلَة بوكلاء تكاثرها (المسلمين)- ترفض مسايرة ذلك التغير و بالتالي ترفض التكيف و الذي هو ركن التطور الفكري، فمقاومة التغير تعني مقاومة التكيف و الذي بدوره يعني مقاومة و رفض التطور. ليس هذا فحسب، بل إن الكثير من المسلمين يرفضون التكيف مع بيئتهم و يصرون على تكيفها هي معهم ! أكاد أجزم أن عقلية كهذه تؤدي إلى فناء الفكرة (الإسلام) و اندثارها.

لذلك، فإن الإسلام كفكرة هو أمام مفترق طرق : إما أن يعتنق التكيف و معطيات البيئة الزمانية و المكانية من أجل الاستمرار و النجاة و إما أن يرفض ذلك بحجة التمسك بإرث معين مزعوم يؤدي إلى خسارة أتباعه حتى تلفظ الفكرة الإسلامية أنفاسها الأخيرة. هي معضلة لا حل وسط لها في التاريخ و لا آخر يلوح في الأفق و بإمكاننا التحقق من ذلك و ببساطة إذا ما درسنا و تفحصنا تاريخ تطور الأديان الأخرى. المسيحية اليوم -على سبيل المثال- هي بالتأكيد ليست مسيحية الأمس.

و كما نُسب لفيكتور هوغو، فإنه لا يوجد جيش أقوى من فكرة حان وقتها. و قد بدأ البعض من المفكرين الإسلاميين بتحسس الخطر و محاولة التفاعل معه و الاستجابة له و هم من سيظهر في النهاية لإدراكهم ذلك.

أدرك أن ما طرحته في هذه التدوينة قد لا يكن جديداً فيما يخص لزوم تكيف الإسلام و محيطه، و لكن ما يهمني هو هذا التوازي العجيب على المستويين الفكري و الطبيعي فيما يخص استمرار و نجاة وكلائهما و الآلية المحددة لذلك، و محاولة استخدام ذلك لعرض أزمة ضرورة تطور الإسلام ضمن قالب أكثر احترافية يقدم تشخيصاً حقيقياً يمكننا من خلاله التنبؤ و قراءة المستقبل إلى حد ما، و ليس ضمن خطاب غير ناضج يقم في غالبه على تذمر لا يعلم ما يريد.